سفر: حيلة السلطان
قطار الدرجة الثانية العادية، بل في الحقيقة ممّا دون دونها حتى الدرجة العشرين إن وُجدت، كان ينطلق فيه الباعة الجائلون من كل لون وطائفة، كما أنّ القطار كان ممتلئًا عن آخره أكوامًا من اللحم ملتصقة، أكثر من ذلك كان هناك الراكبون في أعلى حيث أرفف الحقائب.. بعضهم مجند عائد من بعيد...
طاقة الخَيال عنْد مْسَلَّكْ لِيّامْ، أبْعد في رحلاتها مِنْ أنْ تُحَدَّ بأمْيال، لذلك تجدهُ في غالب التّفكير، ساهماً حالماً لا يَسمَعُ من الكلمات إلا آخرها، في غيبوبة محْمولا على أكْتافِ النّمْل كما لو يمْتطي ظهور الأفيال، لَمْ يكن يُخالط النّاس أو يُخالِطوه لِغرابته في الشّكل والهِنْدام،...
تمنّى أبي أن يلتقي بأمّي ولو للحظة فقط، ليقول لها كلمة واحدة.. سيتحدى أعراف مدينته ويعترف لأمّي دون خوف أو خجل.. نعم سيضرب بعرض الحائط كلّ التّقاليد والأعراف والعادات البالية.. وسيهتف بحرقة، ومرارةِ، وتحّد، وإصرار:
- أحبّكِ.. أحبَّكِ.. يا (زينب).. يا حبيبتي.. يا زوجتي الرائعة.. يا أمّ ابني الذي...
كان يقف عند نافذة حجرته يراقب تساقط الثلوج المستمرة ،ندف قطن تتطاير بغزارة من سديم أبيض ، إنّه يعدّ الساعات المتعاقبة علّها تتسارع كي يحلّ المساء ،لتحضر عنق حمام إلى مجلسه فتدفىء أرجاءه و روحه التي يدبّ إليها البرد غير متوانٍ ... علا صوت صهيل الخيل في الإصطبل، فتطايَر إلى حجرته الصامتة...
برفقة عمّي (عمر)، ذهبت جدّتي إلى.. البلدة التي تعيش فيها أختها.. والتي تتبع لهذه (المنطقة)، وكان الوقت مساء، لذلك ومن المؤكّد، بأنّها ستنام هناك.. أمامها ثلاثة بيوت، يتوجّب عليها زيارتهم، دار أختها (فطيم)، التي هي من تقصدها في الأساس، لخطبة حفيدتها لأبي، والدّار الثّانية هي لأخيها (الحج محمد)...
ج(10)
عاودت العاصفة الثّلجية وكانت أعنف من سابقتها ... لقد كانت إشراقة شمس تلك الأيّام القلائل السابقة مختلسة من ربيع زائر في غير موعده كان صحو الأيام فيها فرصة لخروج السكان للتبضّع و التسوّق و تبادل مختلف المصالح والأغراض .
أبكرت عنق حمام إلى خمّ الدّجاج ،واختارت ديكا وديكا،قام باز...
عاد أبي مع جدّي إلى الدّار، التي كان قد طرد منها.. وكان قد اشتاق لها ولأشجارها، ووردها جداً، ففرحت جدّتي بعودته، حضنته وقبّلته،ولكنّها بكت لمّا عرفت، ماذا دار في الجلسة، وماذا كان طلب جدّي (عبيد)، لكنّها علّقت، قائلة:
- في النّهايةِ، ستعود إلينا زوجتك، مهانة وذليلة، ومكسورة الخاطر.. ولكن نكاية...
ج(9)
دخل "باز" لاهثا بعد طلب إذن الدخول، وقال وهو يسترجع هدوء أنفاسه التي تسارعت بسبب الركض:
ـــ سيّدي خليفة... رسول من سيّدتي "سعدى" يرغب في لقائكم.
ـــ ليس من عادة ابنتي سعدى إرسال رسول في أيّام الشتاء المثلجة! أدخله حتّى أرى ما خطبه؟
أبلغه رسول سعدى بأنّها تستعجل قدومه حتّى...
ج(8)
تشكّلت برك مائية أمام عتبات المنازل، فقد انقشع الضباب الذي غشي صباحهم، وأشرقت شمس شتائهم البارد المثلج، تداعت الثلوج لحرارة الشمس فانصهرت وجرت في شكل سيول تخترق الأرض وشقوق الصخور.
صادفها "باز" ـــ سائس زريبة الغنم ـــ وقد أثارته خطواتها المتسارعة وهي تتجّه نحو ديار وافدين من بني...
نام أبي، في دار عمّه الحاج (حسن) عند أختيّه، حدّثهم في الأمر، ورفض تناول طعام العشاء.. وكانت ليلة صعبة جداً على أبي، وعلى أمّي، التي لم تجرؤ أن تحدّث أهلها، في الأمر، ذلك لأنّ (جدّي عبيد)، لو عرف إنها خرجت، من دار زوجها مطرودة، وفي الليل، لرفض أن يعيدها إلى هذه الدّار، مهما صار، فقد كان شديد...
(مصطفى الحاج حسين).
(جدّي)، خلال سنة واحدة، دفع عن أبي (خمسمائة) ليرة، (ليعفيه) من (العسكريّة).. ثمّ وبذات السّنة،صرف على زواجه، من أمّي، (خمسمائة) ليرة ثانيّة.
(جدّي)، في منتهى القسوة عندما يغضب، يريد ويطلب من أبي،وجميع أفراد إسرته، أن يتمسّكوا بالأصول، وأن لا يخرجوا عنها، وإلّا سيلقون منه، ما...
ج(7)
أغلق شاهين باب المربط، وغادر *شبه* متسلّل تاركا وراءه بقية الغلمان نياما، سار بخفّة نحو دار سيّده المرحوم أحمد، فقد كان يحبّه ويراه بمثابة والده الذي لم يعرفه يوما، ويجد في حنو السيّدة زينب عوضا عن أمّه التي بالكاد يتذكّر ملامحها.
وجدها بانتظاره فحيّاها تحية اِبن لأمّه، أشفق لتدهور...
عندما مات (الأغا)، وجد جدّي (سامي) نفسه، فقيراً وبلا صنعة تستره، وتمكّنه من العيش، فصار دائم الحزن، وعابس الوجه، لا يقدر أن يشكو أمره لأحد.
لم يكن (جدّي) متزوّجاً بعد، ولا دار ملك عنده، وليس بيده صنعة، وأخوته الكثر، عندهم ما يشغلهم عنه، ومنهم من كان متزوّجاً، ومنهم من كان مثله عاذباً، يبحث...
ج(6)
كان صباحا أبيض الملمح، أبكر الشيخ خليفة بالاستيقاظ، وأزاح الثلوج التي تراكمت حول باب مدخل داره، تفقّد الزريبة ومربط الخيل، وأوصى غلمانه بعلف المواشي، فلا مجال ليسرحوا بها والثلوج تعاند وتتساقط بكثافة فتشكّل هضابا بيضاء لمّاعة ترصّعها طبقة الصقيع التي ترافق صباحاتهم الباردة. رأى خليفة...
ج (5)
حلّ اللّيل الدّامس، وقطعت الثلوج المتساقطة الممرّ المؤدّي إلى بيت الحكّاءة "عنق حمام" ولم يعد بإمكان الشيخ خليفة التنقّل، إلاّ لتفقّد المواشي في الزريبة والخيل التي يبيت غلمانه قريبا منها لتفقّدها، وتلبية طلباته. ألحّت عليه لهفته لاستكمال الحكاية، فأرسل غلامه في طلبها... حمل الغلام مشعلا...