قصة قصيرة

... ومات أبو فيروز، ذلك الرجل الذي جاء جريحًا وحيدًا إلى قريتنا، عشيّة النكبة، فقد وقعت قنبلةٌ على اللاجئين الذين خرجوا من يافا هربًا من المذابح، فَفقد أبو فيروز سَمعَه، إذ فجّر قيزان القنبلة طبلتيْه، مثلما مزّقت عائلته برمّتها. كان لأبي فيروز بدلة سوداء، تبذّ أيّ طقم رسمي أو "تاكسيدو" يتزيّن...
أوقف جزازة العشب في وسط ساحة الدار لأنه شعر أن الشمس في تلك اللحظة بدأت في المغيب والنجوم بدأت تظهر في قبة السماء . وبدأ العشب المقطوع حديثا والذي غطى وجهه بالذبول بهدوء . نعم كانت النجوم هناك ، خافتة في البداية ، ثم تشع ببريق أخاذ في السماء الصحراوية الصافية . سمع باب الشرفة يغلق وشعر أن...
بين أضلعه يرفرف قلب استبدّ به شوق إليها بعد طول غياب.. لسانه الأخرص يدخر حكايات صغيرة لبث يراكمها سنة كاملة..ثملةً بفرح اللقاء؛ تطالع وجهه بمقلتيها الباسمتين الناعستين؛ تطوف بكل ثنايا؛ وجهه تحصي أفراحه الموسمية الصغيرة؛ وكأنها لعبة شائقة تزدان بها أنامل صبي يتيم ذاق صنوف حرمان . لا عليك! تسر...
( إلى حسن بحراوي ) الآنَ ، وبعدَ أنْ حلّ الأسوأُ الذي لم يكنْ في الحسبان . ?عتقدُ جازماً أنّ الشرارةَ الأولى لكلّ ما وقعَ لاحقاً ، انقدحتْ حينما خرجتُ إلى شرفة شقتي ببيجامة النوم ، لأدخنَ سيجارة . صدقُوني ، كلّ المصائب التي سوفَ أُخبركمْ بتفاصيلها الغريبة ، سقطتْ على ر?سي دفعةً واحدةً بسبب...
وهو في غياهب السجن اتفق مع رفاقه على موعد غريب..أن يلتقوا كيف ما كانت الأحوال بعد عشرين عاما ليلة رأس السنة في مقهى باليما وسط المدينة.. مرت فصول عديدة وعبرت مياه كثيرة تحت الجسور وغادر الجميع الأسوار وانتشروا في مناكب الأرض منهم من صادف حظا وافرا وترقى في السلالم حتى لم يعد يتعرف عليهم...
أفرغ ما في رأسه على الورق الرابض على مكتبه, يخط أحداثا متصاعدة, لملمها لاهثا, انتقى لها عدة أسماء.. لم يستقر على واحد نها, كان يعلن العصيان على النوم, رغم جفونه المثقلة, احمرارها التي زادها توهجا, مشجعة إياه على رفض إغرائه, وخيوط الشمس تتسلل من بين فراغات الشيش طالة عليه متغلبة على ضوء المصباح...
لا أدري لماذا تذكَّرتُه ليلة البارحة. كنت مارًّا في الطريق ذاته إلى المقهى. وبعد سهرة طويلة، مفعمة بالارتياح، عدت والظلمة والسكون يستجيبان لوقع خطواتي ولذاك الصدى المنعكس هنا وهناك. ابتسمتُ وأنا أجتاز حاجز الأشجار الكثيفة. همستُ للذاكرة. لا بدَّ للسخرية أن تكون! كنت هنا... توقفت. استدرت نحو...
الفتاة هادئة، وجذابة. من دون شك هي كذلك. ثمة شبان كثر يتوددون إليها. أحد أصدقائي ينظر إليها الآن، يعترف لي، على رغم أنه تأخر في ذلك، بأنه يوماً ما سيضمّها إلى صدره مهما كلفه ذلك من تعب ونقود وصبر وأكاذيب. يا للعري المهذَّب المباح! يا للمقايضات العينية الرائجة! اسمها لوسي، وهو اسم أقرب إلى رمز...
غير بعيد حائط طيني أجلس، ربما لأنقذ كلامي الذي يدور داخل فمي لا غير، لكن البلادة سيّدة نهاري الجديد. بردٌ يموج حول جذع الرمّانة النحيلة. تربتها جافة. يضرب الضوء نصف جذعها العلوي، حائلاً، يسيل بحمرة خفيفة. ألمس وجهي. وجه بلا عمر ليس دليل براءة. أحقاً أنا دمية مدفونة! حسناً، ما السيئ في عالم الدمى...
كنتُ ذا ميلٍ فطريٍّ لتعنيف ذاتي وإجبارها على كَتْم ما تحبُّ، لا رغبةً في جعلها تُماثِلُ غيرَها من حيوات قاسيات فحسب، بل لمعاقبتها يوميًّا على عجزها أن تحظى بانفرادٍ يحمي آلامَها الشبيهة بأرضٍ تجمَّدَ صلبُها، فما عادت تعكس سوى كتمانٍ لا يزيده العملُ إلا فوضًى وأذى! نعم، جرَتْ فيَّ الأذيَّة،...
صفق الأستاذ فاتح عبد الجبار باب شبه الغرفة خلفه خارجاً، آمِلاً أن المشي قليلاً في هذه الساعة المبكرة من الصباح، قبل الذهاب إلى المدرسة، سيطرد الصداع الدبُّوسي الذي ينخر صدغيه. هذا هو يومه الثالث هنا، بعيداً عن مدينته بمئات الكيلومترات، في بلدة صغيرة تشرَّبت، من الريف والمدينة على حدٍّ سواء، كل...
"أرسِلي ذكرياتك بالبريد، إذا كنت تودين المرور بأقانيم مطارحاتنا الغرامية التي كنَّا نزاولها متشابكين فوق الحائط." قرأ هذه الكلمات تحت صورة معلَّقة على الجدار، قبل أن يوقد شمعة عوضًا عن مصباح الغرفة. نظر إلى الزوايا التي بقيت متشحة بانعدام الوضوح. فكَّر باستبدال مصابيح الساحة التي يقطنها منذ...
أَفَقْتُ مُسْتَغرِبًا انزِعَاجَ أُمِّي وَحَوْقَلَتَهَا... نَظَرْتُ إلى عَقارِبِ السّاعَةِ، فَأَدْرَكْتُ السَّبَبَ . كانَ نَومي عَمِيقًا؛ لِأنّي قَضَيْتُ مُعْظَمَ سَاعَاتِ اللّيْلِ مُقَلِّبًا صَفَحاتٍ كَثيرَةً؛ سَأُمْتَحَنُ فيها اليَوْمَ الامْتِحانَ النِّهائِيَّ لِلمَرْحَلَةِ...
- مات ياكوف! قال ذلك أحد الأصحاب المتحلِّقين حول سرير الميت. جَزَعٌ وحيرة بادية. وراح المتحلِّقون يتبادلون نظرات غاضبة بأعين جاحظة. أطْبَقَ صمتٌ مخيف على الجميع، وملأتْ المكانَ رهبةٌ وغربة. إلى أن قَطَعَها صاحبٌ ثانٍ قائلاً: - ما كان له أن يموت قبل أن يخبرنا ماذا فعل بكلِّ ثروته...
تضع المدينة أنشوطتها الغليظة حول عنقي. كل ما في المدينة يسهم في منع النسمة من الانسراب إلى صدري. شوارعها المكتظة، أرصفتها الضيقة، الفضاء المشحون بزعيق السيارات، الموسيقى الصاخبة، أصوات البشر، أيديهم الخاوية الممدودة من أجل رغيف، حناجرهم المتورمة، وعيونهم الطافحة بدموع متحجرة. أهرب من موقع...
أعلى