سرد

لم يشغلنا محتوى الأمر الذي أطلقه السجّان كم خلف شبّاك المهجع بنبرة جافة، حاسمة: (ضبّوا غراضكم)، لأننا كثيراً ما ضببناها وحملناها منتقلين من مهجع إلى مهجع، بل شاغلتنا حركة أخرى، مباغتة تماماً: حين جمعونا أمام غرفة التفتيش وشرعوا يسلّموننا الأمانات التي كنّا أودعناها يوم دخولنا قبل سنوات. وسط...
يترك السرير ويقترب من المساحة القليلة التي تنام فيها. تمتدّ كفّ يده الكبيرة إلى وسادتها وتتبعها الكفّ الأخرى. يستولي على وسادتها. قامته الطويلة تحجب عنها النسيم الداخل من النافذة. (تمرّ لحظات ليليّة, تذكّرني بماض كانت تهدهدني فيه النسام الدافئة, التي تلهو بأغصان الأشجار الكثيرة المحيطة...
هكذا يوحي ليل المدينة, وعشرات العمارات واقفة مثل أشباح أسمنتية, تترقب لحظة الانقضاض, حتى وهي مغمضة العيون. والعيون مغمضة بشيش مترب. كل ذلك وغيره يجعلني أفرط في تفادي مواجهة حقيقة لاذعة المرارة, أنني أسكن وحدي في الطرف الأقصى من الدنيا, فعندما تحتقن السماء بسحب داكنة, وتغرق المدينة في صمت مؤسٍ...
على البوابة الخارجية الواسعة المسيجة بشبكة من الحديد التخين، اعترضني فريق كامل من الحرس في ثياب مدنية. من شباك السيارة قدمت لهم بطاقة الدعوة المختومة بخاتم تفحصوه جيدا وتأكدوا أنني لم أقم بتزوير هذه البطاقة. انحنى أحدهم على شباك سيارتي وطالبني ببطاقة تثبت هويتي. بقليل من الزهو قدمت له بطاقتي...
ـ زمن الحرب شوارع لا يمر فيها أحد, وعمارات خالية من السكان. ساحة للفراغ, صارت خارج الوقت والمكان, تعبرها من حين لآخر نساء ملثمات يرتدين الجلابيب السوداء, عبورا كأنه يتم في أوهام المدينة أو خيالاتها أو في ذاكرة من عاشوا فيها قبل هذا الزمان, فلعلهن النادبات. طيور محنطة محمولة على أصابع من حديد...
يستيقظ صباحًا, ويغادر فراشه بعد تردد, ثم ينتصب على أرض غرفته الملساء ذات المربّعات الملوّنة أشكالها الهندسية بألوان حمراء وزرقاء وخطوط سوداء وبيضاء. استيقظ?.. لا.. فهو لم ينم ليستيقظ من نومه. لم ينم لأنه كان مسكونا بالأرق.. جرّب أن ينام.. ولكن.. لا.. النوم لم يزره ولو لدقيقة واحدة, عيناه...
ما كان لي أن أتصور عودتي إلى محلتنا القديمة (باب الشيخ) بعد أكثر من عشر سنوات, لكن تلك العودة تحققت حين فتحتُ لي مكتبا للمحاماة مطلا على شارع (الكفاح) فوق أحد المقاهي المجاورة لمخزن (عبد الله الشيخلي). كانت في الأساس فكرة أبي, الذي ذكّرني بأن أهالي (باب الشيخ) هم أهلنا وهم الذين قد يلجأون إلينا...
رأيتك يا إيكاروس عندما سقطت في الماء, رأيت رأسك الصغير كحجر بلا ملامح, أو كوجه فأر عجوز يحتضر. وسمعت - نعم سمعت - شهقة الموجة التي جاشت على سطح البحر الإيجي بعد أن ارتطم جسدك الشاب بسطح العنصر الأبدي السيّال. سألت نفسي إن كنت قد شهقت أيضًا أو تأوّهت. وتفحصت لوحة الفنان لعلي أتبيَّن دموعًا تسقط...
المقهى الجديد في الحي القديم لفت انتباهه بنظافته غير العادية فقرر أن يكون جلوسه فيه، وحده أو مع أصحابه أو من يشأ لقياه. الحوائط لامعة لأنها مغطاة بالسيراميك الوردي الجديد، والأعمدة أكثر لمعانا رغم أن لون السيراميك حولها يميل إلى البني، أما الأرض فهي أكثر لمعانا من الحوائط والأعمدة رغم اللون...
الحكيم خرجت أمي من الليوان إلى أرض الدار، ونادتْ دون انتظار ردٍّ من أختي هدلا: صار وقت الإفطارِ يا هدلا. ولم تولِ أمي انتباهاً إلى أن هدلا كانت تنزلُ زاحفة، نحو الخلف على الدرج، وهذه كانت طريقةُ ابنتها في النزول، وفي الصعود من، وإلى عليتها. كانت هدلا تضحك بصوت أبله متهدج، وقد اعتدنا على...
السماء مكفهرة ملبّدة بالغيوم, ولكنني مع ذلك مضيت إلى كشك الهاتف وسط المدينة, هذا الطقس لن يشجّع الكثيرين على الازدحام أمامه. أخيرًا جاء صوتها: آآلو...مَن يتكلّم?! اه, يا للصوت المخيف, مشوّش, لكنه مرتجف يهتزّ في إيقاع مرعب, كأنه صوت حقيقي لشبح قادم من العالم الآخر! ماذا أفعل? - آآآآآلو...
لَمْ يخالج فلورنس الشك بأن أمها أكبر النساء سناً في العالم، فقد كانت تروي لها ولأخيها جبرايل كثيراً عندما كانا طفلين عن عمرها المديد الذي لا يحصى بالسنوات، والذي تمتد جذوره إلى زمن العبودية الغابر. ولدت في مزرعة إحدى الولايات وترعرعت فيها، وعملت في الزراعة لكونها تتميز ببنية قوية. ومع مرور...
أصفى صفاتي لوصف الوصف واصفه لا الوصف وصفي ولا الأخبار أخباري لما برزت بمغناه برزت به ولو برزت بنفسي أضرمت ناري لا تنكروا ذاك من جهلي بعلمكُم إني سبقت مطاياكم بأطياري إني ركبت على عنقاء مغربة لها جناحان من برق وأنوار هفافة تقطع الأكوان واجدة حتى أناخت بباب الخالق الباري وجه كريم ووصف ماله صفة...
كلما وصلت إلى الشارع المؤدي إلى بيتنا, يخفق قلبي بسرعة مجنونة. لا يستكين إلا بعد أن أرى البيت في مكانه. البنايات الحديثة القبيحة, التي تحيط به, لا تحرسه, بل تخنقه. ورغم ذلك يصمد برصانة, بطابقيه المتواضعين, وشرفاته الضيقة, نصف الدائرية, وأبوابه وشبابيكه الخشبية باهتة اللون. أحيانا, وأنا أتقدم...
في الساعة العاشرة قبل منتصف الليل من كل أربعاء, يأتيه من يأخذ الجثة ويعطيه ألف دينار, بشرط أن تكون الجثة لرجل وغير مبتور منها أيّ عضو مهما صغر حجمه. كان يبيع الجثث التي يدفنها بيديه, منذ سنوات وهو يحفر في أرض المقبرة, لا أحد يعرف عنه أي شيء سوى أنه رجل مؤمن وعفيف لا يأخذ أكثر من حقه في الحفر...
أعلى