في ظلمة تمحو ملامح المكان ، كتلة بشرية سوداء قابعة في كرسي ، تحاول العينان منها فك شفرة العتمة فيزول العمى ، في مكتبه بين كتبه الموسومة بعناوين شتى ، لم ينس سعيد هنداوي أول شعور بالغرور العذب يسري في دمه ؛ إذ يرى اسمه مطبوعا على غلاف ورقي بائس ، بالنسبة إليه كانت المرة الأولى في يوم بعيد...
كانت ابتسامتها الخافتة ، خافتة ، مألوفة ، لكن بعيدة إلى حد ما ، مثل مشاهدة نسخة من الموناليزا عبر غرفة مليئة بالدخان .
في منتصف الليل في ذلك القطار الذي كان يمخر السكة الحديدية بعزم ، كانت مثل مشوهة السيرك تريد أن تلتهم رقبتي من على المقعد الخلفي وهي تغني أغنية قبيحة بشكل لا نهائي ومكرر .
لم...
جميل..!! المكان خلف سائق الطاكسي فارغ... هنا على الأقل أفضل من المقعد الخلفي الأخير، جلست راضية منتظرة أن يأتي بقية الركاب المتجهين إلى حي حمرية، تترقب الساعة.. لا بأس؛ فراضية اعتادت الخروج باكرا حتى تصل عملها وتأخذ نفسا ترتاح به قبل أن تبدأ جدية العمل، الوقت إذن يبدو كافيا وإن كانت ما تزال...
قرأت يوما ما أن النورس.. فارس محترس مفترس، متمرس، متغطرس، متجسس، متحسس، ولم أكن أعلم أنه كذلك متهور الى حد الإرتماء في احضان الموج ليصطاد فقاعات زبد البحر رغما عن البحر نفسه.
لقد تسرب لحن الحياة من شقوق شظايا اليأس المتكسرة على عتبة قلوب النوارس الطموحة والجامحة وعقدت أمرها على يوم لا رجعة فيه...
ج(10)
عاودت العاصفة الثّلجية وكانت أعنف من سابقتها ... لقد كانت إشراقة شمس تلك الأيّام القلائل السابقة مختلسة من ربيع زائر في غير موعده كان صحو الأيام فيها فرصة لخروج السكان للتبضّع و التسوّق و تبادل مختلف المصالح والأغراض .
أبكرت عنق حمام إلى خمّ الدّجاج ،واختارت ديكا وديكا،قام باز...
في قرية الرَّهوة الوادعة بين الجبال التي يزينها حصن أبيض طلي قريباً، تنحدر الطرق والبيوت شرقاً حتى أطراف القرية المستقبِلة لشمسٍ ربيعيةٍٍ مُفْعمةٍ بالدفء .
صباح الخميس، لا شيء يمنع أن يكون كغيره من أيامنا الهادئة، لولا أن توقّفت سيارةٌ غريبةٌ ، وهبط منها من هبط ، في أول الأمر قالوا نحن من...
عاد أبي مع جدّي إلى الدّار، التي كان قد طرد منها.. وكان قد اشتاق لها ولأشجارها، ووردها جداً، ففرحت جدّتي بعودته، حضنته وقبّلته،ولكنّها بكت لمّا عرفت، ماذا دار في الجلسة، وماذا كان طلب جدّي (عبيد)، لكنّها علّقت، قائلة:
- في النّهايةِ، ستعود إلينا زوجتك، مهانة وذليلة، ومكسورة الخاطر.. ولكن نكاية...
عندما وقع كفها الرقيق بين أحضان كفي، شعرت بانتشاء أخذني إلى عالم لا وعي فيه، ضغطت على يدها كأنما أضغط على شعور بداخلي كي يهدأ ويستكين، تعرّق جبيني وتلعثم الكلام على شفتيّ، لم أجد للكلام معنى وإنما أردت السكوت؛ فالصمت في حرم وجودها عبادة، وأنا ناسك مبتدئ لا يعرف كيف الصلاة.
جلسنا على طاولة...
ج(9)
دخل "باز" لاهثا بعد طلب إذن الدخول، وقال وهو يسترجع هدوء أنفاسه التي تسارعت بسبب الركض:
ـــ سيّدي خليفة... رسول من سيّدتي "سعدى" يرغب في لقائكم.
ـــ ليس من عادة ابنتي سعدى إرسال رسول في أيّام الشتاء المثلجة! أدخله حتّى أرى ما خطبه؟
أبلغه رسول سعدى بأنّها تستعجل قدومه حتّى...
أحببتُ هذه الأغنية، كلماتها بسيطة وحلوة:
".. ونتخيّل مَثلا مَثلا يعني إننا
في كوستاريكا
بيقُولو الحياة هناك سهلة وبسيطة
في كوستاريكا
نِشتري بِيت صُغير ونلعب في الحديقة
في كوستاريكا
وقت غروب الشمس نقعُد على الأريكَة".
لماذا "كوستاريكا" بالذات؟ أسمع عن مدينة أو دولة بنفس الاسم، لكن لا أعرف أين...
كانت إيمي صغيرة الحجم، دقيقة، قصيرة، نحيفة، وجهها مستطيل مضغوط من الجانبين كأنه شمعة وحول رأسها كان ثمة نور خفيف، عيناها واسعتان، كعيون الإيرانيات، معبئة بسواد ساحر عميق، يعلوهما حاجبان مرسومان بدقة كهلالين غاية في الجمال. لكن إيمي لم تكن تنظر مباشرة إلي عيني من يحدثها إلا نادرا وللحظة قصيرة...
ج(8)
تشكّلت برك مائية أمام عتبات المنازل، فقد انقشع الضباب الذي غشي صباحهم، وأشرقت شمس شتائهم البارد المثلج، تداعت الثلوج لحرارة الشمس فانصهرت وجرت في شكل سيول تخترق الأرض وشقوق الصخور.
صادفها "باز" ـــ سائس زريبة الغنم ـــ وقد أثارته خطواتها المتسارعة وهي تتجّه نحو ديار وافدين من بني...
"ستتزوّج رملة أخت محاسن هذا اليوم" طار هذا الخبر في فضاء المدينة الصغيرة الجنوبية، يرى البعض أنه خبرُ عاديُ، مثل كل الأخبار التي " تعلس" بها ألسنة الناس منذ الصباح و حتى آخر الليل ، لكن الخبر حمّلته مناقير الريح وأجنحة الغيوم وأشعة الشمس وحتى موجاب النهر الصغير المتفرع من الفرات ، ليصل الى...
نام أبي، في دار عمّه الحاج (حسن) عند أختيّه، حدّثهم في الأمر، ورفض تناول طعام العشاء.. وكانت ليلة صعبة جداً على أبي، وعلى أمّي، التي لم تجرؤ أن تحدّث أهلها، في الأمر، ذلك لأنّ (جدّي عبيد)، لو عرف إنها خرجت، من دار زوجها مطرودة، وفي الليل، لرفض أن يعيدها إلى هذه الدّار، مهما صار، فقد كان شديد...
فى أغلب الأوقات التى نلتقى فيها أنا والزميل (أيمن) كنا نتبادل النكات، السؤال عما تفعله بنا الأيام، أخبار عياله، أحوال إخوته، أعرفهم جميعا.. منذ ثلاثين عاما.
تقاطيع وجهه، تفرض باستمرار حضور أمه لمخيلتى، كأن روحها (معششة) فى المكان.. الشبه بينهما كبير.
كانت المرحومة بمثابة (أم) لى، قبل ثلاثين...