لعل حاسة الشم لها تأثير كبير على شهية المرء عندما يقع تحت طائلة الجوع، في بداية تجولي وتسكعي :فى أحياء وشوارع وأزقة دمياط فى محاوله لاكتشاف ما غمض على من اسرار المدينة واكتشاف نفسى التي احسست بروزها من خلال هذه الممارسة ، فى علاقة جدلية شبه معقدة لحد ما بيني وبينها، فأني أعتبر في نفسي جزء...
ج (5)
حلّ اللّيل الدّامس، وقطعت الثلوج المتساقطة الممرّ المؤدّي إلى بيت الحكّاءة "عنق حمام" ولم يعد بإمكان الشيخ خليفة التنقّل، إلاّ لتفقّد المواشي في الزريبة والخيل التي يبيت غلمانه قريبا منها لتفقّدها، وتلبية طلباته. ألحّت عليه لهفته لاستكمال الحكاية، فأرسل غلامه في طلبها... حمل الغلام مشعلا...
كان حفل رأس السنة لهذا العام مميزاً، بحضور ولديّ من اغترابهما. لقد بذلت كل ما بوسعي لأن يكملا اختصاصهما في الغرب ،ويعودا كما فعلت، لكنهما علقا بشباك الغربة.
على المائدة الباذخة المكتظة بأصناف الطعام، والحب والفرح والذكريات، جلس إبني و زوجته وابنه على يميني، وابنتي وولديها إلى يساري.
أخذت زوجتي...
لا أدري ما الذي جعلني أتذكر تلك السمكة الكبيرة التي اصطادها أبي من النهر الذي كان يرتفع ماؤه أيام الفيضان،رغم أن ذلك حدث منذ زمن بعيد، كانت تلك أيام مضت قصت حكايتها جدتي في ليالي الشتاء الطويلة تلتف حولها ونتعارك من يجلس بمقربة منها!
تلك السمكة على ما يبدو ذات ذيل أخضر وزعنفة ملونة؛ تتمتم...
أنا لم أعرف جدّي، والد أبي، فقد مات قبل أن تنجبني أمّي، بحدود السّنتين، ولكنّني عرفت عنه الكثير، من مصادر، ورواة عديدين، وخاصة عن مدى قسوته، وبطشه، وظلمه لأبي، وإلى بقيّة أسرته.. بداية من جدّتي، صاحبة الكرامة، التي تعتزّ وتفتخر بها، إلى ابنها عمّي (سعيد)، ولدها البكر، الذي خلّفته من زوجها...
(4)
دقّت "عنق حمام" باب غرفته، ودخلت وبيدها طبق سعف به تمر "القرباعي"، تبسّم الشيخ خليفة لمّا رآها مقبلة، مدّ يده لطبق التمر، وأخذ يأكل منه ثم قال بنبرة ملهوفة:
ـــ وماذا عن الشيخ أحمد وأولاده؟
اعتدلت في جلستها أمام كانون الجمر، ثمّ قالت:
تزوّد الشيخ أحمد، وشدّ الرحال ـــ حيث لا...
اقتحمتْ الغرفة المعتمة بجموحٍ. كان الهواء راكدًا، وكان زوجها كعادته يلوذ بنومه الثَّقيل. سارعتْ إلى فتح الشُّبَّاكِ؛ فتدفَّق تيارٌ من الهواء الطلق داخلَ الغرفة، بينما غمرتْ أشعةُ الشَّمس الأرجاء الرَّطبة، والفراش البارد، وَسُرعانَ ما لفح حرُّ الشَّمس وجهَ الزَّوج؛ فتململ في فراشه، وهبَّ من نومه...
ككل مساء، تنزل من على الخشبة، تتوجه إلى غرفة الفنانين... ثم تجر قدميها نحو بيتها... لا يضيء طريقها قمر ولا مصباحǃ
وعلى غير عادتها، قبل النوم، لم تسرح شعرها، وما أزالت الماكياج عن وجهها، لكنها ارتدت قميص نوم أبيض... وتناولت قرصها الطبي، المهدئ... وتمددت على سريرها...
هي، منذ طفولتها، تخاف...
فتحتُ عينيّ ببطءٍ شديد، هديرُ أمواج البحر القادم من النافذة، كان أول ما تناهى إلى سمعي وحينئذ تذكرت حالما درتُ ببصري في أرجاء الغرفة أنني لستُ في بيتي، لستُ في فراشي.
نهضتُ، بحذرٍ أبصر هذا العالم الغريب الذي وجدتُ نفسي فيه، كانتْ الأرض رخوة تحت قدميّ والفراشات تملأ المكان. هل أنا في حلم؟.
ومتى...
.........
وقفت مشدوهة أنظر إليه وعلامات الحزن والألم ترتسم على وجهي بوضوح، لم أحرك ساكنا، أدخلتني صورته البائسة وبكاؤة النازف في حالة غريبة من التأمل والتألم، طفل من أطفال الشوارع الذين لا نعلم من أين أتوا، كان صغيرا جدا للحد الذي يجعل حتى الحيوانات الضالة ترأف لحالة، ضئيل الحجم رث الثياب، تلطخ...
لا وقت للحب في الزمن الصعب
فلنرتدع جميعاً، نحن معشر العشّاق والعاشقين
ولنستحِ من خفق القلوب، لأنّ إيقاع النبض صار للحرب والطبول هي نفسها، تلك التي يقرعونها في الأعراس، ها هم يقرعون بها للحرب!
للنفير للتجييش، للتهليل والتهويل، والتهديد والوعيد بالتطبيل والتزمير لموسيقى الحرب والأبواق كلّها...
لم تكن الوحيدة فى هذا الكون غيرها الكثير، جوعى لكلام يدفئها فى صقيع وحدتها، ووحشة الخيبات التى تلاحقها، حتى لو كان كلاما كاذبا، مثل شجرة عارية فاجأها الخريف فى منتصف المسافة بين الحزن والغياب، وعلى نحو ما بدا العالم اكثر وحشة، بينما كانت الشمس تلملم اثوابها فى حقائب الشجن والغروب، مؤسسة لوداع...
استقدم الشيخ أحمد جميع غلمانه، وسألهم عن موضوع هجرة أبنائه لكنّهم أنكروا علمهم للموضوع، ولمّا رأته الخادمة شامة محتارا مشوّشا تقدّمت منه وقالت بنبرة وجلة:
ــــ سيّدي أحمد لدي ما أقوله حول هجرة الأولاد.
انفرجت عيناه، وتجهّم وجهه وقال بصوت هو أقرب للصراخ والتأنيب:
ــــ ويحك. ألك...
يخرج من بيته مبكرا، يسير أحيانا فى الشارع وحده، فهو يعمل كناسا، لابد أن يبدأ عمله قبل قيام أهل الشارع الذى يعمل فيه من نومهم. يصحون فيجدون الشارع نظيفا.
إقترب منه كلب صغير فى حاجة إلى الدفء، إلتصق بساقه، أراد الرجل أن يبعده عنه؛ لكن الكلب أصر على مرافقته، وسار معه حتى الشارع الذى يعمل فيه،...
ج2
انقضت أشهر الحمل وجاءها المخاض، اجتمعت النسوة ـــ من المقربات في القرية ـــ في سقيفة الدار يترقّبن وكنّ قد سمعن خبر هجرة أولادها إذا ما كان المولود ذكرا. كانت إلى جوارها في مخدعها خادمتها الخالة "شامة" والقابلة العجوز " كنانة"،توجّعت السيّدة "زينب" واستطاعت بفضل قوّة جسدها أن تتجاوز...