مع بداية فصل الشتاء، يكون الجو منعشًا، وتميل الشمس في تلك الأيام أن تُشرق على استحياء، في طفولتي كان هذا يتزامن مع موسم بدء الدراسة، وانتشار فاكهة الجوافة، كانت رائحتها تسري في جو الشوارع القديمة والحارات، على طول طريقي من وإلى المدرسة، تفوح من دكاكين الفاكهة، وعربات الباعة المتجولين.
حينها...
إلى أين تذهبين؟
لم يكن عليك الابتعاد كثيراً عن البيت! لم يطلب منك والدك سوى كأس ماء أو حفنةٍ من الملح، أو ربما سكين. لقد أراد أن يضع القليل من الملح فوق البصلة البنفسجية في صحنه، كي يستطيع ابتلاعها. وأنت كالعادة وبعد عدة خطوات تصابين بفقدان الذاكرة، يلفك النسيان. فمالذي كان يريده! الملح! أم...
يُِحكى أنّ في مدينةٍ هادئةٍ في قَلبِ الصَّعيدِ النَّائي ، جَلَسَ " الخواجة ماركو" أمام دكانهِ الكبير ، يتأمّل الشُّعاع الباقي لهُ من شمس حياته ، حينَ لم يتبق له من متع دُنياه ؛ إلّا هذه الجلسة ، وابنته الفاتنة " ماريّا " قَدِمَ صاحبنا المدينة شابا مثريا واسع الثراء ، أقدمَ على تجارتهِ بنهمٍ ،...
لا تسألني عن أحوالي ولا تبادرني:
"مساؤك سكر".
كما هي العادة، فقط تقول لي بصوتٍ خافتٍ جدًا:
"إنت فين؟".
أخبرها أني في البلكونة أشاهد رجلاً عجوزًا يقطع مسافة عشر أمتارِ ذهابًا وإيابًا في وهنٍ يكاد أن يكون له صوتٌ، وعلى مقربةٍ منه، تنتظره، أو تشجعه في تريضه اليومي هذا، امرأةٌ في الثلاثين...
لا اخرج ولا اذهب كثيرا الى داخل العاصمه ، اذ ينحصر عملي كمدرس رياضيات داخل المدرسة بريف الخرطوم ، ولكن شاءت ارادة المولى عز وجل ان اذهب ذلك اليوم الى العاصمة لاجل استخراج بطاقة قومية ، اسوة بزملائي المدرسين الذين أوصفوا لي مكان استخراج البطاقة ، وبحمدالله وتوفيقه لم اجد صعوبه في استخراجها...
المدّ يمارس هوايته المفضّلة في محو ذاكرة الرمل،والنوارس تحلّق فوق المشهد في لا مبالاة معلنة،الألفة تحتضن كل شيء وأنا الوحيد الغريب تحت سقف ذلك الأفق المقفل،ولكن لا يبدو أن وجودي يزعج أحداً،فتلك الرحابة تبسط كفها للضيوف العابرين دون تكلف،فالخطوط هنا تمدّ أطرافها نحو اللانهاية،دون تقاطعات ،وقوس...
كان آخذاً طريقه إلى المقهى . لفحات البرد تجمدُ وجهَه الشاحب. الفجرُ يفتح براعمَه المضيئة وراء الأفق. الطريق المرصوفة بالحجر يرشُّها الندى وجدرانُ البيوت على جانبيها تكتسي لوناً أزرق ، وتتلألأُ قراميدُها البنيةُ بضوءِ الفجر . وعند نهاية الطريق ، تقوم طاحونة مائية يوشي عنها صوتُ دورانها قبل...
راعتني هذه الكلمة وأنا في أول يوم لي في هذا المكتب. إذ كيف تتعامل رئيسة القسم مع موظفة زميلة بهذا الأسلوب! فتقول لها: اخرسي لا تنطقي؟!
لم تكن هذه أولى الزواجر التي سمعتها منها هذا اليوم، لكن بمعدل كل خمسة دقائق تصرخ فيها بمثل هذه العبارة، فتخضع لها سمية ، وما إن تهم بالكلام حتي يعود الزجر مرة...
غرقتُ في عالم الفناء أَمْ أنّي وجدتُ من جديد! لم أتعرف ماهيتي الآدمية جيداً،تاهتْ مني أصابعي وحدودي. عدة جنيات حولي تتلألأ، وصوتٌ يهمس لي:
- في عالمنا هذا تنتفي الحقيقة والكذب عليك أنْ تفهم هذا جيداً.
وجدتُني مخلوقاً من رمادٍ أسود، وروحاً من أخضر. أسبحُ أطير أهوي، لا أملك ارضاً ولا سقفاً. كيف لي...
ولأن الحكاية ولدت من رحم الجدة الكبيرة،حتى أنني نسيت اسمها، فذاكرتي مثل الغربال لا تحتفظ بشيء، لذا لجأت إلى حيلة ماكرة؛ أخذت كل ما تجمع لدي من قصاصات وذهبت إلى أمي التي تختزن في ذاكرتها كثيرا مما غاب عني، تعطي لأدق التفاصيل قيمة حين تعبر بوجه صاف ويد كأنها المغزل، هذه الليلة كان البرد شديدا...
لازال صدى صوت الأفندي يتردد في أذنيّ ، وقد تربّع فوق كرسيهِ الخيزران القديم ، يهرش كعب قدمهِ فرِحا نشوانا ، وهو يحكي لي حكايته المُعادة لعشراتِ المرّاتِ ، والتي استجلى منها حكمتهِ المشحونة بالتوريةِ : ماتَ العليل وماء اللّفت له دواء ، يغيب الأفندي في ضحكتهِ التي تناثرت نهنهتها فيما يُشبه البكاء...
لم يكن مستغرقا في نوم عميق أو يقظة تامة، عندما تناهى إلى سمعه صوتها الهامس، قادما من رحاب المجهول، فبدأت سحب النوم تتلاشى عن عينيه، وصار متأهبا لصحوة مباغتة.
كان صوتا ساحر النبرات، واضحا في هذه المرة. تقلب في فراشه دون أن يفتح عينيه، ثم جذب الغطاء فوق وجهه. مرت لحظات من الصمت، تباطأت فيها أنفاسه...
وصل أول جندي أبيض إلى ساحة المعركة، بنشاط وحماسة وقف منتصبا عند منتصف السفح الذي ستُبنى عليه القلعة، شدّ بندقيته إلى جانبه، وأخذ يلتقط أنفاسه المتسارعة، ويمسح العرق عن وجهه ورقبته.. بعد دقائق قليلة وصل جندي آخر، وأخذ مكانه قبالة الهضبة الصغيرة المخصصة للخيل، تبادل الجنديان التحايا ونظرات...
هناك طفل نائم في البراز
خليط من الدم والبراز، طفل نائم فيه
متى يعتقونه، متى يصعد ليغتسل؟
هل قطعوا أذنيه حقيقة يا أمانيتي؟
بعد أن انتهيت من رواية (أنا لا أخاف) لكاتبها الإيطالي نيكولو أمانيتي، وجدت نفسي أكتب تلك الكلمات، وأثناء تفكيري في استكمالها كقصيدة، صعد الدم إلى رأسي، وقفز إلى ذهني المعادل...
على موعده الدائم "الخميس من كل أسبوع" تنتظره نساء قريتنا، ضعيف البنية، قصير، دقيق ملامح الوجه، له صوت جهوري، تتعجب حين تسمعه ، كيف لهذا الصوت أن يخرج من هذا البدن الهزيل! عباراته قاطعة لها قفلات محكمة، لو سمعت نداءه دون أن تراه لخيل إليك أنه قائد جيش ينادي على جنده ليتجمعوا في ساحة المعركة، تحول...