سرد

لطالما عشقت الصورة، الضوء، الأثر، ذلك الشعور بأن أحدهم ترك دون أن يدري قطعة منه لتذكرني به حتى وإن كنت لا أعرفه لأنه بذلك قاوم النسيان ولو بصورة، فما أقسى الحياة التي تحملنا إليه وما أصعبها لولا فسحة وجوده، لذا تعيش الذاكرة مع النسيان كتوأمٍ غير متماثل، يرقصان معاً على لحن الوجع دون أن يلمس...
ماذا دهاك أيها النحس؟ أقلب صفحاتك واتمعن بكلماتك وأنت تربطني بعقود أكلت ولازالت تلتهم سنيني. صوت ينعكس صداه في أعماقي ويأبى فراقي لكنني لم أتعود عليه. لا أحبه رغم أنه صوت إنسانة أحبها. - لم يمض إلا شهر واحد على صرختك الأولى لنتفاجأ بموت أبيك وبعد أسبوعين من موته دهست سيارة مسرعة أخيك. ولن تمضي...
في كفرنا حكايات تروى، تسري مع النيل كما الموج، نتبلع بها في أيام الجوع، نرتديها أسمالا تستر أجسادنا، نلزم الصمت حيث يشوي ظهورنا السوط، نحدث أنفسنا سرا؛ لذا جمدت شفاهنا وصارت عضوا عاطلا عن العمل ككل أجسادنا؛ نسترخي في القيلولة على ظهورنا فيمرح الذباب، نفتح أفواهنا لما يجودون علينا به، نشكر ونحمد؛...
وضعت الام المهجرة المكلومة الثكلى يدها على قبر ابنها الراحل للتوّ، ووضعت يدها الأخرى على قلبها وهي ترسل نظراتها في الفضاء المسترخي قبالتها، كانت القبو تملأ الرحب. ما أصعب فقدها لابنها. املها المتبقي في العودة الى قريتها. هكذا برمشة عين انزلق، انفلت من بين يديها، ورحل في طريقه الابدي تاركًا وراءه...
أعمدة الإنارة نوافير ترش الضوء؛ فيعانق النور السيل المنهمر من سماء دمنهور الناعسة. قطرات المطر قابلات يلقنّ الأشجار المبتلة و الأسفلت اللامع نشيد الميلاد. تستيقظ الشوارع من سباتها على وقع خطواتنا، على كراسي الخيزران تنكمش أبداننا حول منضدة في صدر مقهى (البنا) العتيق، نصطلي بدفء الزجاج و سخونة...
مُنذ خَطّت قَدمي فاغبرّت بهذه البلاد ، وأنا أرى عَجَبا عُجَابَا ، في البِدءِ شَقَّ الأمرُ ريثما اعتاده ، استدعى إيقاظي في سَاعاتٍ اللّيلِ وبواكير نهاري ، قديما عوّدت نفسي ألَّا انتَزعها من الفراشِ قبل أن آخذ قِسطَا من الرَّاحةِ كَافيا ، وإني والله لفي عَجب ؛ إذ كَيفَ الانصياع لهذه الأمور...
سيّدة جميلة كان اسمها " زهرة" ، في منتصف عمرها قرّرت أن تظل جميلة إلى الأبد. مثلما يحلّ الربيع ، كانت زهرة تحل بقصر " أحمد باي" باي قسنطينة . المدينة المتحركة مع " واد الرومل" إلى قصور الباي الأخرى أين كان يبسط سلطانه ويعرض عليه " عيسى الأشرف" خيمة كبيرة وقد مد سماطها ووقف عليه الخدام. وتقوم...
دخلنا الى القاعة المظلمة في قاعة المتحف، شاهدنا الحارس ينام تحت لوحة " غريت " ذات القرط اللؤلؤي، من دون غطاء، يفترش البلاط المرمري البارد، يضع يده اليمنى وسادة لرأسه. كنا نريد ان نرتاح قليلا من عناء السفر عبر الجبال والوديان والبحار والمدن الثلجية، انا محدثكم الهواء وزملائي البرد والضباب...
فوجئ الحاج أحمد عبد السلام بطقم عسكري يتوقف أمام منزله ، وبسرعة خاطفة تقافز منه مجموعة من العساكر أحاطوا بالبيت ، ومن الطقم نزل أحد الضباط وتقدم نحوه وسأله بعد أن ألقى عليه السلام : ـ أنت أحمد عبد السلام محمود ؟ ـ نعم أشار الضابط نحو الطقم : ـ تفضل معنا ـ تفضلوا أنتم عندنا ، أنتم ضيوفنا . رد...
“الكاتب سفيرُ بلده. والسفراء هم أوّلُ المدافعين عن مصالح بلادهم، وأكثرُ المعنيّين بنقل صورة جميلة عنها.” إذا كنتَ قد مررتَ على صفّ الأستاذ أدهم، طالبًا في قسم اللغة العربيّة وآدابِها، فلا شكّ في أنك سمعتَ هذه العبارة مرارًا، لا أحد يؤْلم الأستاذ أدهم أكثرَ من كاتبٍ يرمي مجتمعَه بكلّ الموبقات كي...
جالس تحت شجرة الجميز العجوز؛ التى يتمايل أحد أغصانها مقتربَا من الأرض تاركآ ظله على مياه الترعة الكبيرة، المتفرعة من النيل، ممسكًا نايه، مرت من أمامه، حاملة إناء الحليب الذي تذهب به صباح كل يوم لمكينة الفرز؛ لفصله عن القشطة، وبعد عودتها تخضه داخل قربة مصنوعة من جلد الماعز لتحصل على الزبدة...
دب عمنا الشيخ صالح في كفر أبوقتب كما النمل؛ يتوكأ على عصاه؛ مسبحة خضراء معلقة برقبته، يتطوح يمينا وشمالا؛ تعلو ظهره حدبة أشبه بحجرة الرحى؛ يملأ سيالة جلبابه بحبات النعناع؛ يتبعه الصغار؛ يهبها نفحة من نفحاته؛ غير أن شيئا ينقصه؛ يضرب بعينيه في ممرات الكفر؛ تسكن حاراته ذوات الخد؛ وللقد منهن صنعة...
اليومَ أنا شخصٌ آخر، لبستُ ثوبًا لونه مختلفٌ عن الألوان التي اعتدتُها، وضعتُ حولَ معصمي ساعةً من الماركاتِ القديمةِ الأنيقةِ بدلًا عن ساعتي الالكترونية، رششتُ عطرًا فاخرًا نفاذًا من السوقِ الذي تركتُ الابتياعَ منه منذ زمن، مشيتُ بطريقةٍ هادئةٍ غير العَجِلة التي عُرفتُ بها ، تحدثتُ بهدوءٍ...
شيء ما ترك فيك الأثر! جعلك مترفًا بالاكتفاء.. تحدق مَلِيًّا في مجريات الأمور.. مُستمتع عقلك في سرد التفاصيل.. لا شيء يستر عِرض الحقيقة عند اِنكشافها... ونصاب اليقين أن تُدرك... ها أنت تعيد لم شتات ما تبعثر، تتجرَّد، تتضرَّع، تتعبَّد، تَدعُو: اللهم اجعل قُرّة عيني في الصلاة. تطرد شيطان ذاتك؛ قبل...
خرج من داره، و في عينيه بقية من نعاس. كان النهار لا يزال وليدا، و كان الجو مغلفا بضياء شحيح، امتزج بظلمة، أوشكت أن تنقشع. كان أمين في عجلة من أمره؛ فلم ينتبه إلى تصدع سياج الفناء، الذي بناه منذ سنين باللبن الأخضر. كانت التشققات حديثة، بحيث لم تنتبه إليها زوجته التي خرجت في إثره. اعتلى أمين...
أعلى