بجوار ماسح الأحذية, وبائع الليمون كان يجلس, بكرتونته, يبيع اللب, والفول السوداني,
يخرج كل يوم من بيته القاطن "بساحل طهطا" مع أول ضوء,
قبل أن تطلع الشمس تراه يتعكز في الشارع الطويل, يدب علي الأرض بخطوات ثقيلة ضعيفة, ناهز السبعين خريفاً, أو يزيد عليها قليلاً, وما تقوس ظهره وما انحنى, ثقُل سمعُه...
(الليلة ممطرة،
والبرد احدّ من السكين
وصوت الريح ، وحشرجة المطر المتدفق ...
والشارع اقفر ، إلا من اصداء خطاها ،
لاشيء سوى هذا ،
وسوى اصداء خطاها وسواها ،
وحقيبتها المبتلة ، والشعر المتثائب في ملل ،
فوق الكتفين .. وانملها ،
وهي تدق الباب ليفتح ..
من سيكون الليلة ضيفي ..؟
.....الخ)(2)
أرتاح...
يشق النهار طريقه لا يعوقه ظلام الليل ولا يمنعه نوم الكسالى، يزحف في بطء كما لو كان دودة تعرف منعرجات الطريق، يحمل سمعان بقجة القماش، قادم من الزمن الأول، لا يعرف أحد فصله أو أصله، في أبلسة عرف كل الأسرار؛ بل وحتى وشم الأجداد، يوم فر نابليون من المحروسة، كان جده مع يعقوب الأرميني، طالت هذه...
"لما بلغنا أيها الملك العظيم حظنا من سحر الوقف -فقد أُذن في كل المدائن: أيها الناس، اسمعوا وعوا، لقد عرف العالم طريق اليسار- كتبنا من يومها، عند الكل، بالسحرة المنقذين".
(من كتاب: إخوان سحرة سها البال عن تذكر قبيلهم)
من المتوقع أن تسقط المدن في يد العدو، لكن أن يضحى العدو من نفس الفصيل...
كنتُ أمنّي نفسي بإن تجلس بجانبي أمراة جميلة في مقعد الباص الذاهب الى محافظة سامسون. مكان مقعدي في المنتصف ، حسب الحجز . المسافرون قليلون الى هذه المدينة المطلة على البحر الاسود، في ليل شتائي لايرحم. أنطلق الباص في الساعة الواحدة. كما هو مقرر، نظرتُ الى الخلف فرأيت سبعة ركاب فقط، يجلس كل واحدٍ...
أفزعتني نظراته عند أول لقاء لي في مكتبه؛ إذ كيف يتعامل مدير عام الشئون الإدارية مع موظف جديد بهذا الأسلوب! فيقول لي : لماذا تركت السعودية؟! وما الذي جاء بك إلى هذه الشركة ؟! هل أنت في كامل قواك العقلية؟!
تعددت نظراته الغريبة وكلماته المريبة في ذلك اليوم من جديد، لكن بمعدل كل عشر دقائق يعلق...
المصادفة جمعتني به في حفل لإحدى صديقاتي. كان قريبًا لزوج تلك الصديقة، ما إن عرفتني به حتى بادرني بسؤال:
- هل أعرفكِ من قبل؟.
أجبته وأنا أتفرس في ملامح وجهه:
- لا أعتقد، فأنا لا أنسى وجهًا قابلته أبدًا!.
زمَّ شفتيهِ وفتحَ عينيهِ دلالة الإعجاب ثم دعاني للجلوس قربه.
بدا طوال السهرة هادئًا متزنًا...
رزقني الله بعمل إضافي قبل عيد الأضحى بأيام قليلة، سعدت بهذا الرزق ليس من أجلي، ولكن من أجل إسعاد أبنائي، وأدخال الفرحة في قلوبهم، لأنني سوف أشتري لهم لحمة العيد من عند الجزار، كم كانوا يتمنوا هذا من قبل.
لقد سئموا لحوم الدجاج في عيد الاضحى، واللحوم المجمدة، التي كنت اشتريها لهم في الأعياد؛...
صمت المقابر يخيم على هذا المكان البارد .
كذلك رائحة الموت تملأ أنفها ، لا تعرف كيف تتخلص منها .
أحبته حبا جنونيا منذ أن أصبحت جثة ، لا تطيق فراقه أو الابتعاد عنه قيد أنملة.
كانت في البداية تراقبه من بعيد ، وتهتم وتحلل تصرفاته .
كانت تتساءل كل دقيقة ، كيف استطاع أن يقتلها ببرود ودون أن يرف له...
وأنا أعبىء حباتِ الزيتون في القطارميز، تذكرت صديقي الطبيب، نهضتُ من المطبخ وقمت بالاتصال به
- مساء الخير دكتور
بدا صوته متعباً، اعتقدتُ أني أيقظته من نومه فقمت بالاعتذار فقال:
لا أبداً أنا في قيلولة وأشعر بالكسل وحسب
سألته عن أقرب عنوان إلى منزله لكي أرسل له قطرميز زيتون، شعر بالخجل ورفض...
الوحدة لها ضجيج يصم الأذن، يتشربها المرء حتى الثمالة، الشمس تتوارى خلف السحب الرمادية، فى سماء شتاء ضبابي شاحب، سيل ماطر من بين رماد السحب، أحال تراب الطريق إلى وحل وطين، دلفا إلى أول مقهى صادفهما، إتقاء للبلل، يطيل النظر الى خدها، يتأمل شامة هى ليست بشامة، لكنها قبلة إحترقت فى سعير لونها...
راعتني هذه الكلمة وأنا في أول يوم لي في هذا المكتب. إذ كيف تتعامل رئيسة القسم مع موظفة زميلة بهذا الأسلوب! فتقول لها: اخرسي لا تنطقي؟!
لم تكن هذه أولى الزواجر التي سمعتها منها هذا اليوم، لكن بمعدل كل خمسة دقائق تصرخ فيها بمثل هذه العبارة، فتخضع لها سمية ، وما إن تهم بالكلام حتي يعود الزجر مرة...
ساعة الحائط كانت تشير إلى السابعة صباحاً تقريباً, وكانت السماء ملبدة بالغيوم....
تفقدت العصفور الذي كان يقف كل يوم فوق نافذتي المشرعة ليوقظني كل صباح, فلم أجده, ولم أره اليوم, فلم أعبئ كثيراً بهذا الأمر, كما أني لم أرغب في أن أخوض معارك ذهنية عقيمة, أو أن أستهلك فيها " فلكيسات" عقلي في افتراضاتٍ...
تعود الشيخ الطيب أن يؤدى ركعتي الفجر عند شاطئ النيل ، وسط ذلك الجلال المهيب ثم يجذب شبكته ليرى رزق يومه. لكن ذلك الفجر لم يكن كمثله لم تصدق عيناه ما ترى أغمضهما فركهما ثم فتحهما لكن المرئيات ما زالت هي نفسها ، اتكأ بظهره على الضفة الطينية ، غرس يديه بقوة في عمق الرمال الندية حتى يستبين الحقيقة...
تحسّس وهو يقترب من البوابة الكبرى مفاتيحها في جيبه، ضرب يده براسه لقد نسي المفاتيح. هو يتذكر أنه وضعها قريبًا من المغسلة وانطلق في صباحه ذاك.. مليئًا بالأمل ومتوقعًا خيرًا. مدّ يده إلى اكرة خوخة البوابة فانفتحت البوابة. ابتسم. ربّما كنت نسيت اغلاقها الدنيا أمان في ناصرة ابن مريم. فتح البوّابة...