يهبط السلم بتمهل شديد، تنقر عصاه رخام الدرجات بإيقاع بطئ، يتناسب مع ما يستغرقه من زمن بين كل درجة و أختها، يخترق سمعه صراخ الجارات، و صخب أطفالهن، و صيحات السكان الجالسين أمام الشاشات عقب إحراز هدف في مباراة، اشتعلت للتو. تقبل الأصوات عالية مزلزلة من خلف أبواب الشقق الموصدة. يبتسم ابتسامة...
الساعة العاشرة ليلاً وأنا على عجلة من أمري ، أريد العودة إلى منزلي فقد تأخرت والسماء بدأت تمطر وبرد صنعاء على أشده ، برد متوحش يغزو مفاصلي ويلفح وجهي ، أوقفت سيارة أجرة ودون أن أفاوض السائق بالأجرة فتحت الباب ورميت بنفسي على المقعد ، أخبرته بالمكان الذي أريده فهز رأسه ومضى بصمت .
بدأ المطر...
قال لي فتى في السابعة عَشْرة: ما لك تُدِيم النّظر إليّ، كأنّك تعرفُني، يا شيخ؟!
قلتُ له: أعرفُكَ وتُنكرني، يا فتى!
قال: وأين عَرفتني ومتى، وأنا لا أتذكّرُك؟!
قلتُ: التقيتُك قبلَ سبع وعشرين سنة، مِن يومِ النّاس هذا.. كُنّا -أنا وأنت- رفيقي دَرب، أو قل: كُنّا واحداً، إنْ شِئت!
تعجّبَ الفتى قائلاً...
في طريق عودتي من طبيب الأسنان مساءً، مِلتُ إلى مقهىً معروف بجانب الكرخ من بغداد.
اخترتُ أن أجلس خارجاً، رُغم القَرّ والصِّرّ.. اتَّكأت على الأريكة بفراشها الوطيءِ الوثيرِ.. وضعت رِجلاً على رجل وأخذتُ نَفَساً عميقاً من هواءٍ مُنعش لم يُكدّره سوى نُسَيمات دُخان من أركيلة جارٍ على طاولة قريبة...
وجد نزارغالي بعد أن أُغلِقَ باب القطار أنه الراكب الأخير. توقف هنيهة ليستعيد أنفاسه ثم بدأ بالتخطي في الممرات باحثًا عن مقعد رقم 26 وما أن عثر عليه حتى ألقى بجسده عليه مادًا يده في جيبه الشمال ليتأكد من أن المسدس ما زال في مكانه.
انتبه للفتاة الجالسة قبالته والتي كانت تنظر إليه بطرف عينيها وهي...
(1)
وكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها،أخذ يمضغ القطعة تلو الأخرى من الكيس البلاستيكي المتأرجح في يده اليسرى، السرور يجتاح عالمه الطفولي، والدهشة تزغرد في عينيه، أثناء عبوره أزقة السوق الريفي، بدكاكينه التي تبدو أقدم وجودا من "ود النَمِيِر" و "سلطان بلد الضُلُّمه"، وكل تلك "الحجاوي" التي تشعل بها...
الرأس تتمايل نحو الأسفل وصوت شخيره ينبهه إلى وجوب انتقاله من غرفة المعيشة حيث التلفاز والكنبة إلى غرفة النوم حيث فراشه العنيد الذي يأبى إلا أن يبقيه متيقظا في سهرة مملة وكأنه موصول بجهاز كمبيوتر يعمل بمجرد أن يشعر بتمدده عليه. ويبدأ الروتين عادة بتجوال عينيه في أنحاء الغرفة من وضع الرقاد مع عقل...
..لا الصوت ولا الضوء. أسرع منه, كلاهما عرفنا سرعته, ما أود السؤال عنه.., لم نتمكن منه.. فائق للغاية, عجزت عنه تصوراتنا, لا شبيه له في الأداء, منذ بدء الخليقة إلى يومنا.., مخترقاً كافة الأكوان.., ما بعدها, كبر شأنها أو قل.. أتعرفونه..؟
وجدتني انا وغيري نتساءل:
ــ أهذه محاضرة في الألغاز أم في...
في حارتنا باب خشبي كبير، دار عليه الزمن، جعلته الفئران ملهى ليليا، كنت أخاف المرور جواره، عليه تصاوير مفزعة، تسكن الشياطين البيوت العتيقة التي هجرها أهلها، سمعت عنه حكايات روتها جدتي؛ يوما ما كان يضج بالحياة، نوافذه كانت مشرعة، البنات الجميلات كن يترآين من نوافذه، شعورهن السابحات مثل اغصان...
خار مهزوما بعد مقاومة مستميتة لشمس حارقة وأرض جافة، ألقى فأسه، حاول تجفيف وجهه بكمه الذي تحول لإسفنجة مشبعة بالطين والعرق، لاذ بالشجرة الرابضة على رأس الحقل، رأى ظلها الباسم مقبلا، نهض حاملا عنها الجرة وبؤجة محكمة الربط، ارتكزت على ركبتيها نصف جالسة تفرج البؤجة عن أرغفة عجفاء، قالت بأسى: ثلاثة...
واصل سيره في خطه المسترسل نحو الأمام كالعادة ،توغل أكثر فأكثر، لاحظ شيئا ما ملقى على الرصيف شكله مغر،انحنى ليكتشفه .
آه! التقط الشريحة ، قلبها يمنة و يسرة، لا خدوش بها إذا دسها خفية في جيبه بعد تفكير و تأمل .
راوده الشك و بعض الهواجس فراح يسأل نفسه :
– ما الذي تحمله قطعة صغيرة كهذه، و لمن...
أحسَسْتُ أنَّ عقلي توقَّفَ عن الاستيعاب، أنَّ ذِهني لم يَعُد قادرًا على فصْل الخُيوط عن بعضها، أنَّ عَيْنيَّ ترى السَّطر الواحد من أوراق تلك القضية، سطرين أو ثلاثة، على هيئة تموُجاتٍ ترُوحُ وتجيء.
توقَّفتُ فورًا عن القراءة، فما جدواها إنْ كان من يَقرأ لم يَعُد يفْهَم ما يقرأ. رحِم الله عُمرَ...
لم أكن راغباً في السؤال عن المكان، فكرت أنه جارح لمشاعر أهله.
في البداية اعتقدت أننا في الفيوم، لكن لهجة عامل النظافة أخبرتني أنه من وجه بحري، أنا نفسي تعجبت من رجل ينحني كالنساء ليمسح بلاط النزل، سألته: في أي البلاد نحن؟
ظل منحنيا على البلاط ولم يرد. لكني كنت مهتما بالبحث عن إجابة.
أين أنا...
تساءلَتْ في صراع يستعر بداخلها:
"هل أستبدل ميكانيكي بطبيب؟! ماذا يقول الناس والأهل والمعارف على عتبات بيوت القرية؟! هل يشمت بي طليقي وعائلته؟!"
تجلس وحيدة تصارع حيرتها، لا تقوى على اتخاذ القرار؛ تعلم أن الناس سوف يلوكون سيرتها كثيرًا، لكن ليس في مقدورها التوقف عن التفكير، لم ولن تحجم عن الانشغال...
كفرس جامح يركض لاهثا في صحراء شديدة القيظ خلف سراب لا يراه احد سواه . يجر قدميه ، يخطو بوهن في رمل ساخن خلف الذي يخايله، وأنا كنت أعدو خلفه بخطى متسارعة ، أحاول دائما أن أصل اليه لكنني دوما لا استطيع ، يردد في أذني : سأصل في هذا العام... سأصل في العام القادم .
: لا تقلقي لقد قربت المسافة ، سأحصل...